ا ا لتماسك الاجتماعي
Social Cohesiveness
التماسك الاجتماعي من المفاهيم المهمة والصعبة والمشوقة التي يهتم بدراستها علم الاجتماع وعلم النفس، ومع هذا ليس هناك معنى واضح وقاطع لمفهوم التماسك الاجتماعي. يُستعمل المفهوم في وصف الحالات التي يرتبط فيها الأفراد بعضهم ببعض بروابط اجتماعية وحضارية مشتركة، ويُستعمل عادة في تفسير أسلوب تماسك أفراد الجماعات الصغيرة، الذي يكون إما بدافع الإغراء ـ أي إغراء الجماعة الصغيرة لأعضائها ـ أو بدافع المصالح والأهداف ـ أي المصالح التي حققها أعضاء الجماعة نتيجة انتسابهم إليها وعضويتهم فيها
وقد استخدم عالم الاجتماع "إيميل دوركايم" اصطلاح التماسك الاجتماعي استعمالاً علمياً في كتابيه: "تقسيم العمل"، و"العمل الانتحاري". وهو يقول في هذا الصدد إن درجة التماسك الاجتماعي تعتمد على طبيعة الجماعة والمنظمات والمجتمعات التي تؤثر تأثيراً كبيراً ومباشراً في أنماط سلوك الأفراد.
كان "دوركايم" مهتماً بخاصة بالدراسة الدقيقة للصلة بين الفرد والمجتمع في وقت كانت تنمو فيه روح الفردية والاضطراب الاجتماعي والتشدد الأخلاقي. وفي دراسته سالفة الذكر طرح ثنائيته الشهيرة التماسك أو التضامن الذي يقوم على التشابه المميز للمجتمعات الانقسامية البسيطة والذي أسماه التضامن الآلي، والتضامن القائم على الاعتماد المهني المتبادل في المجتمعات ذات التنظيم الأخلاقي الكثيف والذي أسماه التماسك العضوي. ويُشير التماسك إلى الإيمان بالاشتراك في الأهداف والمصالح. لذلك يُعد التماسك أمراً عظيم الشأن بوصفه مصدراً للقوة والمقاومة.
وقد أكد "ابن خلدون" أهمية التماسك الاجتماعي، فقال إن المجتمع وعمرانه لا يمكن أن يظهرا إلى الوجود من خلال تفرق جهود الأفراد وتبعثرها، فالإنسان الذي يدرك بفطرته سبل عيشه، يُدرك كذلك ضرورة تعاونه وتماسكه مع الجماعة، إذ ليس في مقدور كل إنسان أن يوفر حاجاته لنفسه. إن ذلك يتطلب تماسكاً وتعاوناً بين الناس. ويضرب "ابن خلدون" مثالاً رائعاً على ذلك يبرر أهمية التماسك وتقسيم العمل بين الناس. فإذا كان لدى الإنسان قوت يوم من الحنطة، فإنه لا يستطيع أن يأكل هذا القوت دون أن يمر بعمليات أخرى من الطحن والعجن والطبخ. وكل واحدة من هذه العمليات تحتاج إلى تعاون وتكاتف الجهود. وبالتالي فإن التماسك والتضامن يبدو عند "ابن خلدون" أمراً ضرورياً لا يمكن للفرد أن يستغني عنه، ولا يمكن للمجتمع أن يتأسس من دونه. فإذا لم يكن هذا التضامن فلا يحصل على قوت أو غذاء، ولا تتم حياته ولا يستطيع كذلك الدفاع عن نفسه.
ويستخدم بعض العلماء مصطلح التماسك الاجتماعي في الإشارة إلى الجماعة الصغيرة أو الكبيرة التي تكشف عن ثلاث خصائص أساسية، هي:
ارتباط الأفراد بمعايير وقيم عامة.
الاعتماد والتبادل بين الأفراد، الذي يكون نتيجة لمصالح مشتركة.
توحد الأفراد بالجماعة.
وقد عرف "إتزيوني" Etziuni التماسك بأنه علاقة إيجابية معبِّرة بين فاعلين فما فوق. غير أن هذا التعريف يتجنب عن عمد استخدام مصطلح الجماعة، مع أن التماسك نفسه غالباً ما يكون خاصية مميزة للجماعات. ولم يتضمن الإشارة إلى قيم وأهداف مشتركة، بل يكتفي بالإشارة إلى المعايير العامة التي تحدد ظروف وشروط العلاقة بين الأفراد.
وباعتبار أن الجماعات لا تكون ثابتة أو ساكنة على الإطلاق، فإن علاقات التماسك الاجتماعي قد تتعرض للتفكك، وقد تتجدد عضويتها باستمرار وبشكل دائم. لكن استمرار وجود الجماعة أو عدم استمرارها رهن باتخاذ وظائفها شكلاً تضامنياً منظماً أو لا
ومن الواضح أن في كل مجتمع اتجاهاً نحو إضفاء صفة الاستمرار والدوام على تماسك العلاقات الاجتماعية، أي تكرار العلاقات الاجتماعية وإخضاعها لعدد من القواعد، وإكسابها صفة الروتينية. ولكننا على وعي في الوقت نفسه بأن هناك اتجاهاً مضاداً، هو الاتجاه نحو الخروج على القواعد ومخالفتها، أو نحو تطوير السلوك الاجتماعي وتغييره، ولا يمكن أن نحدد أي الاتجاهين هو الأقوى في جماعة ما، إلا إذا درسنا سلوك أفرادها في حالات محددة وظروف معينة.
ومما تجدر الإشارة إليه أن جميع العلاقات التي تقوم بين الناس في المجتمع هي علاقات اجتماعية، ذلك لأن الكائن الإنساني لا يستطيع أن يعيش وينمو ويتطور خارج المجتمع. فالإنسان كائن اجتماعي يتضامن مع الآخرين، كما لاحظ المفكرون منذ فجر الحضارة الإنسانية. ولكن ما الذي يحافظ على تماسك واستمرارية هذه العلاقات؟
إن الذي يساعد على تماسك الجماعة وتطور علاقاتها الاجتماعية هو "الثقافة"؛ لأنها هي الأرضية التي يتغذى بها المجتمع، والتي تنمو عليها العلاقات الاجتماعية، وتعمل على تضامن العلاقات بين الأفراد داخل المجتمع، وهي في الوقت نفسه العصا التي تشكل هذا المجتمع، وتصوغ قيمه ومعاييره، أي أن الثقافة هي الخلاصة التي تستقطر من العلاقات الاجتماعية المتكررة بين الناس. وبالتالي فالثقافة هي القواعد التي ترسخ التماسك الاجتماعي، من خلال القواعد الثقافية والعادات الثابتة المحددة والمعروفة للجميع. ونستطيع أن نضع أيدينا على
المعيار الثقافي عندما نجد أن أعضاء المجتمع المتضامنين يتبعونه بانتظام، وأحياناً بلا استثناء في ظل ظروف معينة.
والفرد الذي ينتمي إلى جماعة معينة لا يمكن أن يصبح عضواً متماسكاً في الجماعة، إلا إذا تعلم عناصر تلك الثقافة. وبالتالي فالعلاقة وثيقة بين تماسك علاقات الجماعة والقواعد التي تنظم هذه العلاقات، تلك التي هي جزء لا يتجزأ من الثقافة.
العوامل المؤثرة في التماسك الاجتماعي
1. تعتبر الحروب والنزاعات المسلحة، وعمليات الغزو والكوارث، من العوامل التي تؤثر في التماسك الاجتماعي. ويرجع ذلك إلى أنها تدفع المجتمع إلى إعادة تنظيم أولوياته، وتدفع الأفراد إلى إعادة النظر في أهدافهم وسبل تحقيقها، كما تؤدي إلى اهتزاز قيم الأفراد، ونشأة الصراعات النفسية داخل الفرد وبينه وبين غيره من أعضاء المجتمع، ونقص إشباع حاجات الأفراد المختلفة، والشعور بالتهديد.
2. كلما ازدادت المدنية قل التماسك الاجتماعي، فمع ازدياد معدل المدنية تقل العلاقات الحميمة بين أفراد المجتمع، ويزداد تنافسهم، وترتفع نفقات المعيشة، وتزداد مطالب الحياة المادية مما يُضيف أعباءً جديدة على الأفراد. وتزداد العزلة الاجتماعية مما يشجع على الانطواء وتصدع التفاعل السوي.
3. الهجرات المتعددة، أمن داخل المجتمع كانت إلى أجزاء وأقاليم
أخرى منه، أم من خارجه. فالمهاجر ـ وخاصة إلى الخارج ـ يفقد ذاتيته حين يواجه قيماً جديدة، كما يشعر بالعزلة عن الآخرين شعوراً قوياً. ويفقد الإحساس بقيمته بسبب أنه لا يملك من أنواع المهارات ما يلزم لتحصيل العمل والمركز في المجتمع الجديد، بالإضافة إلى ذلك يشعر المهاجر بالوحشة والإحباط وانعدام الطمأنينة، مما يؤثر في توافقه الاجتماعي. وقد أدت الهجرات المتعددة من خارج المجتمعات إلى بعض الظواهر، مثل تكوين أحياء خاصة بالمهاجرين، وتكوين جماعات عنصرية، وإصابتهم ببعض الاضطرابات النفسية والعقلية بنسبة أعلى من أبناء المجتمعات الأصلية.
4. التغير الثقافي نتيجة للغزو الثقافي أو الاحتكاك بثقافات مختلفة احتكاكاً مستمراً، مما يؤدي إلى صراع بين القيم الأصيلة والقيم الواردة أو الغازية. من هذه القيم الغازية مجموعة قيم ترتبط بالحداثة وما بعد الحداثة، بالعلمانية، بالتدمير الخلاق للقديم، بالهيمنة الاقتصادية والثقافية والسياسية، بالماكدونالية (كنشاط إنساني عقلاني يعتمد على الإنجاز السريع والإنجاز الشخصي).
تماسك الجماعات Group Cohesiveness
يتكون المجتمع من عدة جماعات، سواء كانت أولية تعتمد على علاقات الوجه للوجه، أو ثانوية تعتمد على علاقات غير مباشرة. ومما لا شك
تعددت تعريفات تماسك الجماعة، وفي ما يلي بعض الأمثلة:
ناتج مجموع القوى التي تؤثر في أعضائها للبقاء في الجماعة.
درجة جاذبية الجماعة للأفراد للعضوية فيها.
درجة توحد الأعضاء مع حيز الجماعة ومجالها، وبمقدار تداخل حيز الحياة لكل فرد مع الآخر (من أعضاء الجماعة) يكون مقدار مشاركتهم في حيز الجماعة ومجالها. ويتضح تماسك الجماعة في مقدار التشابه بين الأعضاء ومشاركتهم في إطار مرجعي معين، وتصورهم لبنية مشتركة للجماعة.
التقدير الإيجابي للجماعة من أعضائها، ورغبتهم في استمرار انتمائهم إليها.
فيه أن تماسك الجماعات يؤثر في التماسك الاجتماعي العام.
مجموع قوى المجال التي تؤثر في الأعضاء لتبقيهم في الجماعة، وتتوزع هذه القوى توزعاً مختلفاً بين الأعضاء.
من التعريفات السابقة، يتضح تعدد تعريفات تماسك الجماعة وفقاً لوجهة نظر صاحب التعريف والنظرية التي يعتمدها. وقد أدى هذا إلى محاولة تصنيفها في فئات:
1. النوع الأول: يستخدم مفهوم تماسك الجماعة في الدلالة على جوانب من سلوك الجماعة. فيُعرف تماسك الجماعة في ضوء الروح المعنوية، والإقبال على نشاط الجماعة، وروح الجماعة.
2. النوع الثاني: يُعرف تماسك الجماعة بأنه حصيلة القوى التي تجذب الأعضاء إلى الجماعة وتدفعهم إلى البقاء فيها ومقاومة التخلي عن عضويتها.
وثمة تصنيف آخر لتعريفات تماسك الجماعة:
انجذاب الأفراد نحو الجماعة ورفض مغادرتها.
الروح المعنوية التي يبديها أعضاء الجماعة.
تآزر جهود أعضاء الجماعة.
إلا أن المتأمل في هذه المعاني يجد أنها تدور حول رغبة الأفراد في البقاء داخل الجماعة وعدم مغادرتها، وتعبر هذه الرغبة عن درجة انجذاب الأفراد نحو الجماعة لعوامل معينة. إذا وُجدت تلك الرغبة
تآزرت الجهود للنهوض بالجماعة ولتحقيق أهدافها، مما يؤدي إلى رفع الروح المعنوية لأعضاء الجماعة، وبالتالي ازدياد رغبتهم في البقاء داخلها وعدم مغادرتها.
خصائص الجماعات مرتفعة التماسك
1. الإعلاء من قيمة العمل الجماعي مقابل التقليل من قيمة العمل الفردي: ففي الجماعة المتماسكة يتحدث كل عضو نيابة عن الجماعة، ويعمل على خدمتها أكثر من خدمة نفسه، ويظهر هذا واضحاً في استخدام الأعضاء للفظ "نحن" في مقابل "أنا". فكأن الأعضاء يؤكدون ارتفاع قيمة الأهداف المشتركة للجماعة على أهدافهم الفردية.
2. التضامن والمسؤولية الجماعية لتحقيق أهداف الجماعة: تتميز الجماعة المتماسكة بأن أعضاءها متضامنون بعضهم مع بعض. فيشعر كل عضو بأنه هو المسؤول عن عمل الجماعة، وأن أهداف الجماعة تتحقق بقدر الجهد الذي يبذله. ببساطة فإن العضو في الجماعة المتماسكة كالشريك المتضامن في الشركة المساهمة تضامناً يؤدي إلى بقاء الجماعة، أما عدم تضامنه فيؤدي إلى خسارة
3- إحساس العضو بجذب الجماعة المستمر والقوي له لكي يبقى عضواً فيها
4. تتميز الجماعة المتماسكة بروح معنوية مرتفعة، وإقدام أعضائها على تأدية واجباتهم بشغف وبروح متوثبة. الجماعة
5. المبادأة في اقتراح الوسائل التي تمكنهم من حل المشكلات وتحقيق الأهداف: فقد يسهم الفرد من طريق أداء ما يُطلب منه فقط، وإنما المبادأة هي التي يبديها العضو نفسه ومن ذاته بالاقتراح والتجديد والابتكار ولحل المشاكل.
6. التنسيق بين أنشطة أفراد الجماعة ـ بدرجة عالية من الفاعلية ـ لتحقيق أهدافها.
7. الاعتزاز والفخر بالانتماء إلى جماعة بعينها، مثل الانتماء إلى نادٍ بعينه دون الآخر، ويبدو هذا في استخدام الفرد لضمير "نحن" أكثر من "أنا"، والدفاع عن الجماعة في حالة غيابه عنها.
8. يتميز أعضاء الجماعة المتماسكة بتأكيد ولائهم لها ولأهدافها، فلا يخون العضو الأهداف ولا يسعى إلى تفكيكها، بل يسعى إلى تحقيقها
9. شعور وإحساس أعضاء الجماعة المتماسكة بأن جماعتهم في مركز
التفوق والريادة على الجماعات الأخرى.
وقد يُعبر البعض عن الخصائص السابقة بمصطلح "الالتزام" الذي يُعرف بأنه رغبة قوية من جانب العضو في الاحتفاظ بعضويته في الجماعة، وعزمه على بذل الجهد في سبيلها، وتقبله لأهدافها وقيمها؛ فمن الواضح إذاً أن هناك ارتباطاً بين الالتزام وتماسك الجماعة.
ويتمثل سلوك الأعضاء الذين يحسون بشدة جاذبية الجماعة لهم، في ما يلي:
1. نشاط يدل على شعور بالمسؤولية نحو الجماعة، ويتسم بقدر أكبر من المشاركة في اجتماعاتها، وبالمثابرة مدة أطول على العمل لتحقيق أهداف صعبة، والتمسك بعضوية الجماعة مدة أطول كذلك.
2. تبادل التأثير، فيكون هؤلاء الأعضاء أشد استعداداً للتأثير في غيرهم، وأكثر تقبلاً لآراء الغير.
3. نزعة إلى إدراك الآخرين الذين يحبونهم على أنهم يشبهونهم، وأنهم يبادلونهم الحب، كما أنهم يقيمونهم تقييماً إيجابياً.
4. ازدياد الاتصال بتزايد علاقات الود بين العاملين والمشرفين عليهم، وبالتالي زيادة التجاذب بينهم، وإقلال الاتصال مع من يقل حب العاملين لهم
طبيعة تماسك الجماعات
5. ازدياد شعور الأعضاء بالأمن والاطمئنان في نشاطهم الجماعي الذي يجدون فيه تخففاً من التوتر
من المشرفين، وبالتالي نقص التجاذب بينهم.
من التخطيطات التي توضح طبيعة تماسك الجماعات ومحدداته ونتائجه، التخطيط الرائد الذي وضعه "كارتريت وزاندر